Wednesday, February 26, 2014

        سرطان
صار سريرُكِ الفرديُّ فارغاً، في آخرِ المنزل، السريرُ فارغٌ، في الزاويةِ الجميلة، السريرُ فارغٌ أقول، وأنا لا أفتئٌ أتساءل، ما الذي جعلَكِ تغادرينه في زاويةِ البيت، هل ذهبْتِ إلى العملِ كعادتكِ، أم أنّكِ الآنَ تجلبين لنا الأشياءَ الكثيرة، أم أنتِ الآنَ مختبئةٌ في مطبخِنا الضيّقِ الجميل تحضرين الأرزَّ والدفءَ الكبير، أم هل علي أن أصدّقَهم أنكِ أنتِ في المشفى الآن؟  المشفى البعيدِ أقول، الذي لا يُجدي حتَّى أن أتمنّى زيارتَكِ فيه، المشفى البعيدِ الذي يفصلُني عنهُ وعنكِ مدينتان وقمرٌ، هل أنتِ في المشفى فعلاً؟
أتساءلُ لماذا لما صرتُ أعود إلى البيت، أجري ببسمةٍ لا تظهر، أجري  في البيتِ لأبحثَ لا إرادياً عنكِ، لأقبّلكِ قبلتين، فأجدُ الحكايةَ فارغةً من الحكاية، ووسادتُكِ تنتظرك، تنتظركِ الوسادة، وينتظرُك البيتُ، والكتب، والجدران، وبوابات البيت، والصور، والمفتاح، والجرس، والملابسُ تنتظركِ.
 أتساءلُ لماذا صِرنا نخرجُ أنا وأبي بسيارتِنا، أبي يقود، وأنا أجلسُ مكانَكِ، في الكرسيِّ الأماميّ، وأرى الطريقَ طويلاً جداً، والأبوابُ جميعاً تخدعُني بأنني سأصيرُ أسطورةَ الصمود، خداعٌ كبير، صحيح نسيتُ أن أخبرَكِ أعمدةَ النورِ في الشارعِ تسلِّمُ عليكِ، والسورُ من حولِنا يريدُ أن يبتلعَ الأرضَ سائلاً : أينكِ ؟
أتساءل لِمَ الفستانُ الأخضرُ الذي لطالما أحببْتُ أن أراكِ فيه، لم صار مُعلَّقاً، محتضناً الهباء، معلِّقاً روحي بجانبه تماماً، أنا متأكدٌ أنَّ روحي معلقةٌ بجانبِ الفستانِ هناك.
ولماذا لما أنظر مِنَ الشّباكِ إلى السماءِ كعادتي، أتساءل لِمَ صارتْ السماءُ شاحبةً واضيقتْ الأرض؟ لعلّكِ هنا فتصيرُ الأرضُ حضارةً، ويتنفس الصباحُ فعلاً.
لِمَ صارَ وجهكِ القمريُّ قمرين، وصار خدُّكِ الواسعُ حديقتين، ولِمَ أدركتُ المعنى الحقيقيَّ للطيفِ في غيابِك، والطريق منِّي إليكِ كطريقي إلى الشمس، مع أنَّه يفصلُنا سياج ؟
وأنتِ تدخلين المشفى، تشكينا كم خوفاً وقف في ليل وجهك، وتشكين نارَ وجودِ الهواء، وفي غرفةِ السكون، تصيرُ الحقيقةُ سمراءَ، وتُنْتَزَعُ النارُ فجأة، وتنزلق الطبيعةُ إلى جوفٍ في قلبٍ يتلون بالبرد،

وتبرد الوجنتان الحمراوان، تبرد مع أن درجة الغرفة تساوي الأربعين، وكل شيء يشير إلى حقيقةٍ أن حرارة الحب مستقلة تماماً عن حرارة الغرفة وعن مناخ البلاد.
وما هذه الأجهزة المتطورة السوداء التي تحمل الحديد الفضي اللامع تماماً لتضعه في لحم بشر؟ أسنانها الحديدية هي أنياب كما قال ابن أختي ذو السنتين، لقد صدق. هي ليست متطورة كما يقال، هي مؤلمة جداً، كيف تكون متطورةً، وهي تؤلم بشكل كبير؟ تقطع نسيجاً وسياجاً بكل هدوء، وتقتل الجسد كله في جزءٍ من الثانية، هكذا قال جميع المرضى.
عند غرفة السكون، فمك الكبير والمشرق والواسع يصير خطاً صغيراً مستقيماً، شادَّاً حاجبيكِ ومخرباً ترتيبهما، فأقول: هل يكفي ذلك لوصف الخوف؟
والكرسي الأسود المريح ذو الجودة العالية، في غرفة السكون، يصير جهنمَ ببساطة، كمن يجلس على كتلة من الجثث.  في المشفى، العامة يرون الكرسي مريحاً، من يجلس عليه يشعره موتاً يدخل في عمق شديد.
العامة يرون الغرفة مصنوعة من حجر، من يدخلها يراها مدينة من الأشباح.
من ينظر إلى التجربة من بعيدٍ يكن كافراً بها، من يدخل التجربة يصبح أكبر المؤمنين.
مضطرٌ لأن أقول، لن تفيد نظرتك المستمرة للسقف، لكن ربما ترين فيها أبناءكِ في منتصف اللليل، أو قد ترين في السقف أبناءك يلوحون، بينما هم في البيت يلوحون فعلاً.
وما كيس الدواء هذا الذي يمتلئ بثلاثين علبة دواء، كان دواءً واحداً، كيف صاروا ثلاثين؟ لقد عددتهم البارحة، وأنا أغني الأغاني جميعها، الأغاني التي تعلمناها معاً في غياب النور، ووقوفي بحضرة وجودك. فأطالبك الآن بأن تنسي جميع الأوراق البيضاء التي تصل إليكِ التي تفيد بأن كريات الدم البيضاء في هبوط، والمناعة تنعدم، والشفتان تصبحان في سواد، واليد اليمنى تكبر جداً، والليل الغجري المغزول يموت، لكن قلبي بجانبك على السرير في لفة بيضاء،  ومن أعراضه أيضاً: أن أطفالك يجتمعون حولكِ كثيراً.

في رثاء "أحمد فؤاد نجم"



.يا النجم، جفناك حائران، وقلبُكَ ثائر، يدُكَ قبضةٌ للصّوتِ، جبينك أبيض، ونومك ساتر

لو أنَّ الرثاةَ علموا أنَّ هناك أشخاصاً أقوى من الموت، وأنَّ أعمدةً خضراءَ تتشابكُ في هواءِ وجودك، والمطرُ حولَك يغزلُ بعضَ الشّباب، لعَلِموا، أنتَ أكبرُ من فكرةِ الموت.
لم يمُتْ أحد، رصاصُكَ في العودِ يعود، وبقايا جفافِ وجهِك تنثرُ قمحاً للميادين، ومرآتُكَ تعكس رؤيةَ الأرضِ في أبنائها، ونجمُكَ يسكبُ الليلَ على الخائفين، وكلامك يطير كالحمام، وما أنتَ إلا أنت، تريد السلام
.تَشقُّقُ حكاياتِك خريطةٌ للأبناء، وجلابيتُكَ البيضاء قصةٌ قصيرةٌ عن البلاد
يا البهيّة، حبيبُك ذَهَب، في عنقكِ، أغنيةُ الفرحةِ في قلبكِ، يمسحُ الغطاءَ عن الشمس -مع أنها شمس_، ويرتّب أسطورةَ حفل زفافكِ، أراد الطرحة بيضاء، وهو يقول بصوتٍ من حجر: الموت قراري، لن أذهب لأطيب الخواطر، لن أودع من حولي، الموت قراري، ولن أموت حتى أرى بهية بالطرحة البيضاء، لا الحمراء، وأرى الورد كثيراً، وأبنائي كثر، وإن متُّ يوماً، بعدها، سيكون الموت قراري

ورغم كبرك، كلامك أكبر، وحركة يدك الضعيفة تصفع الرياح، وتنبت في ترتبتك بذوراً ترسم ما سيأتي، وأنت الفقير، وكلهم
أغنياء، وأنت الضعيف، وهم أقوياء، ياللمفاجأة، لم أرَ شاعراً غيرك

يا البهية، مع أن جزءاً منك ذهب إلى الله اليوم، لم يمت أحد


Tuesday, February 25, 2014

هل أنتَ بشرٌ ؟

هل أنتَ بشرٌ ؟ أعني هل تصنع غيمةً أم أن غيمةً تصنعك ؟ أتعبــئ أنفاسك في قواريرَ بيضاءَ بيدين من حكايةٍ، وتنثرها فيها، وتقدّمها هديةً لشلّالات الكائنات، وهل تحب أن يقف شيءٌ أمامك ناصباً حاجبيه جاعِلَك واقعاً فيك؟
أترغبُ في النّجاةِ مِنَ المذبحةِ وحيداً، مع أن مشيتَك ووقفتَك لا تدلُّان على ذلك, وكلُّ نقطةٍ فيكَ تدعو العامةَ إلى الحرب, لكنَّك تريد النجاة ؟
أتحمل قلبَكَ إلى المعركة، مع أنَّ التعليماتِ تحرِّم ذلك, وتخبـئ صورتَها في الجيب الذي لا يراهُ أحد, وتضمن أن يدَكَ تصل إلى الجيبِ بأسرعِ  غَزلٍ ممكن؟
هل تقطع الصحراءَ زاحفاً بلا بدايةٍ, وتحمل صبراً تعتقده عظيماً, راجياً الصحراءَ أن تعطيَك من مائها، ثم تتعب فتيأس فتسوء وتهبط، فتجد الله يغسل رأسك بالماء ؟!
أتستغرب من نفسكَ كيف صبرت أو كيف انتصرت ؟
أتقول إن اقتربت الغيوم وذابت السماء:" ابتعدي يا غيوم, لا أريد غيثاً, الغيث موجود في داخلي"؟ ومع الوقت يحترق غيثك، وتتعزز الغيوم تعززَّ الغيوم .
أتبني منزلك على هاجس في هاجس آخر، وتربي ثمراتك بأرقٍ منك؟ تسهر على التراب، وتؤصّل ما ورثت،  أتخاف كثيراً أم تخاف كثيراً ؟
أتقطع المسافات الطويلة بدعوىً منك أنك ستفعل ما لا يفعل, ومع الوقت تبدو كاذباً, هل في قلبكَ من رياءٍ قليل أو كثير ؟
هل تضيف على الكواكب في مجلسين مختلفين, وتختلف إضافتك في المجلس الأول عنه في الآخر, ربما لأنك تتقن علم الكواكب جيداً؟ 
هل تخبئ صدرك في صدرك، وتُدخل قلبك في جراحةٍ كلَّ يوم، هل تأكل نفسك كما بقية البشر، وهل ترى قلبك يمشي أمامك ؟
تقرّب عدد الموتى لأقرب عشرةٍ، وتنسى أنهم موتى، هم موتى، وتتكلم ببرودٍ عن الموتى، وتنسى أنهم موتى!
تكره عناد ابنك، وطلباته غير الكثيرة، وإن راح في الغارة, تصير أكثر طفولة منه, وتترك ذقنك غير محلوقة لأن أهل الحق –الذين لم تتبعهم- يفعلون ذلك، وتستعد لأن تقبّل عناده كله, وتمطره بالأشياء الجميلة, لكنه راح في الغارة, راح, وتقول : إن رفض َكوب الحليب في الليل، أشربه أنا عشر أكواب, أو أصبّه على رأسي حتى يرضى ابني أو يضحك, لكنه راح، تفتقده وتتفقده، وتلعن لعنتك نفسها، مع أنك كنت تطرده وتلعنه, فقط ربما لأنه أراد دفتراً للمدرسة. وتقول له وأنت تحمل رأسه الهامدة بيد من قلب: عُد يا طفلُ من الموت، وكن عنيداً هذه المرة كما تشاء، فقط عُدْ .
هل تدّعي الشعر، فتصير شاعراً، فتكتب قصيدة في فقير، وإذا مررت بجانبه تتجاهله؟
،تمشي في بيتِك القديم، وتجلس في نفسك، تضع يدك على خدك، وتديم النظر في وجهِ أمِّك، تشعر أن لا وجهاً كوجهها .

تغرقها بالغزل والضحك، تذخرك بالخبز والمعطف والدعاء،ثم أنت تختلف وتسوء ويصبح نهارُ وجهك ليلاً، وتذوب أنتَ تذوب، هل أنت بشر ؟

تؤمن دائماً أنك الصواب الكبير، وتنادي من أجل صوابك، لكنَّ داخلَ داخلك يؤمن بأنك شجرةٌ للخطأ .

أتدور حول من لا يدور حولك، أتعلم أنّك شمس للكثيرين، وأنك لا تدرك أبداً، لا تدرك الكثير أبداً، هل أنت بشرٌ ؟