Thursday, October 17, 2019

كان لديه مشاعر تجاه القمر




كانَ لديهِ مشاعر تجاهَ القمر، يجلسُ معَهُ وحيداً في ليلِهِ الطويل، برفقةِ شجرةِ الفلورا ورائحةِ زهرٍ لم يعرفِ اسمَه بعد. القمرُ معَهُ، ومعَهُ كتابٌ وزوادةٌ من مشاعرِهِ التي لا تعني أحداً، يضعُ طاولتَه أمامَ النافذة، لا لشيءٍ، سوى أن يرى القمر. يمسِكُ قلمَه وريشتَه وروحَه، يجلسُ في نفسه مع نفسِهِ، ويُعدُّ دقاتِ الوقتِ ثانيةً ثانية، ويربِّي حبَّه ويدرِّبُ قلبَه، مع الموسيقى، على الحديث مع القمر
.

القمرُ، يتلقى التنهيداتِ واحدةً واحدة، ولا يقولُ لأيٍ منها "لا"، يسمعُ حديثَكَ كأبٍ عظيم، يصبرُ معكَ ليلةً كاملة، وينسى دورَه تجاهَ الطبيعةِ، لأجلكَ، وربما، سيغنِّي لكَ، حتى تنام.
يحضنُ أسئلةَ الحيارى، ويعتبرُ نفسَه دليلاً للحالمين، يفتحُ أبوابَ الأسئلةِ ولا يغلقُها، ويصنعُ منكَ في ليلةٍ فيلسوفاً.
هو إشارةٌ لأن نحبّ، أن ننتفخَ كبالونٍ في يدِ طفل، أن نطيرَ نحوَ الممكن، أن نطفوَ على السماء، أن نغرقَ في لذةِ التأمل، أن نحملقَ في أنفسنا كما نحملقُ فيه. وهو دعوةٌ لأن نكون أنيقين، وأن نفهمَ ما هو الجمال؟ القمرُ يعلِّمُنا أيضاً كيف نذوب، كقطعةِ حلوى من الشوكولاتة البيضاء في فمِ رجلٍ اسمُه الكون.
هو الأبيضُ في بحرٍ من الأسود، رشَّةٌ من الماءِ على حُرقتِك، ورشفةٌ من كوبِ الحكمة، ونقطةٌ من المعنى من بحر العدم، وهو الوضوحُ في الغموض، وضربٌ من الحقيقةُ في وجه السراب. وربما، هو الطفولةُ في وجهِ الموت.

يضيءُ طريقَ البيتِ في مدينةٍ من عَتمة، يضيء السماءَ كحرفةٍ لا يتقنُها أحدٌ غيرُه، يُهبِطُ ضوءَهُ على الرملِ فتتشكلُ بحارٌ من الفضّة، يتفقُ مع الأشجار على صنعِ لوحةٍ في معرض الحياة، ويأمرُ البحرَ بأن يتروّى، بألّا يفيضَ على الناس، وألا ينكمشَ على نفسه.

القمرُ طفولتي مختزلةٌ في زاويةٍ من السماء، وتعريفٌ للدهشةِ في كيانٍ غريب، كنت أختبئ إذا ظهر، وكنت أخافُ أن أراه، ولكني عندما كبرت، صرتُ أخافُ ألّا أراه، أخافُ أن أكونَ من المنشغلين عنه، وأن أسيرَ دونَ هداه.

القمرُ وجهُ حبيبتي مرسوماً في دائرةٍ بيضاء، قُطرُه مسافاتٌ من أحلامي، وعمرُه صُنِعَ من لياليَّ الطوالِ. فيه حفرتان واضحتان هما عيناها، وحفرةٌ سفليةٌ كأنَه فمُها، أرى وجهَها جيداً هناك.

مقابلةٌ مع القمر/
قال القمرُ أنّه ليس ضرورياً أن يكون بدراً تاماً دائماً، وأنَّ الأشياءَ ليست دائماً كما نريد، وأنَّ الغيابَ حقيقةٌ كالمحاق، وأن الأبيضَ يأتي كما الأسود، وأن الرحيلَ محتومٌ، والوحدةَ شيءٌ أبديّ.
عانى من فكرة كم هو بعيدٌ في المكان، عن كم هو وحيدٌ هناك في السماء، يصارعُ الليلَ معلَّقاً بين احتمالات الزمن، وقال لي سراً: أنه يشعر بانتهاء الوحدةِ حين ألقاه، ويقول لي: أنتَ أيضاً، لم تعدْ وحيداً!
أشارَ القمرُ إلى السوادِ المحيط به دائماً، ولكنه -رغم ذلك- اختار أن يكون أبيضًا.
قال القمرُ مصرِّحاً أنه لا يستطيعُ أن يكون هو نفسُه دائماً، وأنَّ لا شيءَ إلا ويتغير عن نفسه، لكنَّه قبل أن يرحلَ وشوشَني، وهمسَ في أذني حكمةَ الكواكبِ، قائلًا: مهما تغيَّرت الألوانُ، يا ابني، كُنْ نفسَكَ دائماً.